- السيرة العطرة لنبي الهدى والرحمة.
لم تكتنفنا الحيرة ولا التردد للكتابة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك لأنه شخصية فذة، ولا يُماثله أو يُضاهيه أي شخصية في الوجود الإنساني من بدء الخليقة وحتى قيام الساعة مهما بلغت من السمات الخلقية الكريمة والمكانة الاجتماعية الرفيعة والكمال الإنساني بعمومه، وليعلم الزائر لموقعنا بأن استرسالنا بذكر كثير من شمائل هذه الشخصية الفذة والاستثنائية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينبع من واقع ما قد نشعر به من ضرورة ملحة للاستفادة من أكبر قدر ممكن من هذه الشمائل المحمدية في القول والعمل على اعتبار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والذي لا ينطق عن الهوى القدوة الحسنة لكافة الناس أجمعين في جميع أقوالهم وأفعالهم وسلوكياتهم بكافة أشكالها وصورها الخاصة والعامة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها…كيف لا وهو النبي الكريم الذي اصطفاه الله من بين سائر خلقه ليكون بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً القائل: تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام : تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا ( كتاب الله وسنتي ) الرسول الذي علمنا كيف نأكل ونشرب ونلبس وننام ونعاشر الزوجات ونربي الأبناء ونزهو ونمرح، ونتكلم وكيف نتعامل مع بعضنا البعض ومع غيرنا من الملل الأخرى ونؤدي عباداتنا على الوجه الذي يرضاه عنا رب العزة والجلال فضلاً عن الاهتمام بالنظافة الخارجية من جسد وملابس والباطنية من خلال التخلص من الحقد والحسد والكراهية. تلكم هي شخصية نبينا محمد والتي من غير الممكن أن نوفيها حقها من التعبير أو التدوين أو التسطير حتى لو تجاوزنا هذا الحيز إلى مجلدات ، ولكن لعل ما ندونه هنا وهو غيض من فيض من هذه السيرة العطرة تمهد للقارئ الكريم الطريق للبحث عن المزيد في أعماق هذه الشخصية المباركة والتي نبدأها بمولده صلى الله عليه وسلم ومن ثم نسبه ونشأته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
مولده ونسبه ونشأته:
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب من نسل عدنان من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ولذا فأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو من سليل أسرة تعد من أشرف وأطهر وأعلى أهل الأرض نسباً وحسباً، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا السياق: أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم. ولد عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة فجر يوم الأثنين الثاني عشر من ربيع الأول الموافق لعام الفيل 571م على أرجح الأقوال وتربى في كنف والدته أمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن قصي بن كلاب حيث تلتقي مع الرسول في هذا الجد الثالث وذلك نظراً لوفاة والده قبل ولادته بأشهر، ولأن من عادة قريش ألا ترضع المرأة طفلها وإنما من قبل مُرضعات من البادية ليعيش الطفل في أجواء صحية وليتعلم اللغة من أصولها العربية الفصحى منذ البداية فقد نالت شرف إرضاعه صلى الله عليه وسلم عدة نساء كما في بعض الروايات ولكن أكثرهن حليمة السعدية من بني سعد والتي كانت تقول وهي تضعه في حجرها وتضمه إلى صدرها ( لقد فاض ثدياي بالحليب بعد أن كادا يجفان من قلة الزاد وشدة التعب . . مستطردة القول: ولقد شب محمد بشكل أسرع بكثير من غيره من الأطفال حتى إذا ما بلغ التسعة أشهر من عمره أخذ يتكلم بلهجة واضحة ومحببة للقلوب عدا كونه يبتعد عن الأقذار ولا يبكي إلا في حالة أن هنالك شيئا يقلقه فنضطر إلى إخراجه خارج الخيمة فما يلبث أن يمعن النظر في النجوم ويتعجب منها إلى أن يدركه النوم فينام ) وبعد انقضاء مدة الرضاعة وهي سنتين قامت حليمة السعدية بإرجاعه إلى أمه في مكة لا لهدف تسليمها محمد ولكن من أجل الحصول على موافقتها لكي تعود به مرة أخرى إلى مقر إقامتها في البادية وهو الهدف الذي تحقق فلا فكان لها ما كان من الفرحة والبهجة والسرور ، وبعد أن بلغ أربعة سنوات قامت بإعادته إلى أمه ليعيش في حضنها وكنفها وما إن بلغ سن السادسة من عمره حتى توفيت أمه ليصبح حينئذ يتيم الأبوين فيكفله جده عبد المطلب والذي أحاطه بالحب والحنان وتعهده بالرعاية والاهتمام إلى أن توفي هذا الجد الحنون وقد كان عمر محمد وقتئذ ثمان سنوات فكفله بعد ذلك عمه أبو طالب وبعد أن شب صلى الله عليه وسلم وكبر وقد تفوق على أقرانه بأحسن الأخلاق وأنبلها طلبته السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وقد كانت إحدى الثريات بمكة لمشاركتها في التجارة وذلك لما وجدته في محمد من صفات جميلة ومنها الصدق والأمانة والإخلاص والتفاني والذي كان من نتائجه أن تحققت أرباح عالية في هذه التجارة وهو ما دفع بالسيدة خديجة إلى مضاعفة الأجر له، لتطلب فيما بعد الزواج منه بعد أن بلغ سن الخمسة والعشرون سنة بينما كان عمرها أربعون عاماً.
نزول الوحي عليه وتبليغه للرسالة :
نزل الوحي على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وهو يتعبد في غار حراء وفي ذلك قصة طويلة في هذا الخصوص والتي من أولوياتها أنه صلى الله عليه وسلم بُلّغ برسالة الإسلام والدعوة إلى الله والتي بدأها أولا من بيته ومن ثم نشرها سرا لتحاشي ما قد تلقاه هذه الدعوة من معارضة من أهل مكة نظرا لما اعتادوا عليه من عادات وتقاليد موروثة وديانات جبلوا عليها منذ زمن آبائهم وأجدادهم . ومن ثم جهرا امتثالا لقوله تعالى ( فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) وهي الخطوة التي لاقا فيها صلى الله عليه وسلم من السخرية والمقاومة الشديدة والإيذاءات المتنوعة ما الله به عليم وليس هذا فحسب وإنما أيضا امتدت لتشمل صحابته ومن آمن معه من المسلمين وذلك من قبل كفار قريش الأمر الذي حدا بالرسول صلى الله عليه وسلم بنصحهم بالهجرة إلى الحبشة وما إلى ذلك من الوقائع الأخرى والتي منها على سبيل المثال وفاة عمه أبا طالب ومن بعده وفاة زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام ليتوجه بعد ذلك إلى الطائف بعد أن حز في نفسه هذا الفراق لاسيما من جانب عمه حيث مات على الكفر على الرغم من دعوته له بالإيمان والإلحاح عليه بترك الأصنام والأوثان غير أنه أبى ذلك خشية أن يعيره كفار قريش تلا ذلك بيعة العقبة الأولى والثانية واللتان شهدتا تحولا كبيرا بصدد هذه الدعوة حيث اجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم برهط من أهل يثرب حيث كان مقيما في مكة آنذاك واستمع إلى ما قالوه من نزاع قائم بين الأوس والخزرج وما يقوم به اليهود لديهم من تفرقة بين السكان مؤكدين له صلى الله عليه وسلم وبعد أن أعلنوا إسلامهم بين يديه بأنهم سيساهمون في نشر هذا الإسلام بين أهلهم وذويهم في يثرب أعقب ذلك قدوم عدد آخر من يثرب ومن بينهم نفر من الأوس والخزرج وذلك بعد عام من اللقاء السابق حيث أعلنوا إسلامهم أيضا وبايعوه على ألا يشركوا بالله شيئا وبعده سنة تالية جاء وفد آخر من يثرب ومثلوا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وبايعوه بأنه نبيهم وليس هذا فحسب وإنما طلبوا منه الحضور إلي يثرب ووعدوه بأنهم سيؤازرونه ويضحوا من اجل هذا الدين بكل غال ورخيص فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لطلبهم هذا فبدأ أولا بإرسال أتباعه إلى يثرب على هيئة دفعات لكيلا يشعر المشركين بهذا التحرك فيكيدون لهم . بعيدها هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق وبعض الصحابة إلى يثرب لينضموا بذلك مع أخوانهم من المسلمين لتبدأ مرحلة جديدة لهذه الرسالة العظيمة من هذه المدينة طيبة الطيبة والتي استقبله أهلها منذ لحظة وصوله بالترحاب والبهجة والسرور والأناشيد الجميلة كقولهم:
طـلع الـبـدر علـينـا من ثـنيات الـوداع وجــب الشـكـر علــيـنـا ما دعـا لله داع. أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المـطاع جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع.
وحيثما بركت ناقته القصواء المباركة صلى الله عليه وسلم قام بالاجتماع بالمسلمين لأجل أن يُؤلف بين قلوبهم ويُوحد بين صفوفهم. تلي ذلك بنائه للمسجد والذي سيظل قائماً إلى يوم القيامة بالإضافة لمؤاخاته بين المهاجرين والأنصار وإزالة الفرقة بين الأوس والخزرج عوضاً عن عقده لمعاهدة بين اليهود ومن على شاكلتهم من الأحزاب مع المسلمين تتضمن تأمينهم على أموالهم ودياناتهم شريطة تعاونهم جميعا معه في الحرب مادياً وأخلاقياً .
غزوات الرسول وحروبه لإعلاء كلمة الله :
بعدما تهيئ الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بما يلزم للقيام بهذه الرسالة العظيمة انطلق بعد ذلك وبأمر من ربه عز وجل حيث فرض الجهاد لإعلاء كلمة الله بإعداد العدة لتنفيذ هذا الأمر فكانت الغزوات والتي من أهمها وأبرزها غزوة بدر الكبرى في السابع عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثانية من الهجرة والتي تحقق فيها نصر عظيم للمسلمين بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس جيش قوامه ثلاثمائة وثلاثة عشرة رجلا والتي كان من شأنها مع هذا الانتصار العظيم وهذا الحافز القوي أن دفع المسلمين من مواصلة كفاحهم لآجل أعلاء كلمة الله ودحر أعداء الدين فجاءت بعدها مباشرة غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة والتي على الرغم مما لحق بالمسلمين من خسارة كبيرة نتيجة لانشغالهم بجمع الغنائم في لحظة تراجع وتولي المشركين الإدبار حيث انتصر المسلمين عليهم في بداية المعركة إلا أن هذا أعطى للمسلمين درسا ايجابيا مكنهم وبتوفيق من الله عز وجل من تحقيق انتصارات عديدة ورائعة في غزوات ومعارك أخرى ومنها غزوة الخندق أو الأحزاب التي تمت في السنة الخامسة للهجرة وفتح خيبر في السنة السادسة للهجرة وفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة تلي ذلك غزوة حنين والطائف ومن بعدها غزوة تبوك والتي تمت في السنة التاسعة من الهجرة والتي تمثل آخر الغزوات التي قادها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه والتي انتصر فيها المسلمون على الروم على الرغم من كثرة عددهم وعدتهم ناهيكم عن عدد من السرايا التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جميع ما تبقى من بلاد العرب والتي كان من نتائجها مجتمعة إخضاع هذه الأماكن إلى حوزة المسلمين وانتشار الإسلام فيها . لتأتي بعد ذلك خطوة أخرى غاية في الأهمية في سبيل الدعوة إلى الله ونشر هذا الإسلام والتي من أبرزها وبعد أن استقر الحال في ربوع الجزيرة العربية قيامه عليه أفضل الصلاة والسلام بإرسال عدد من الأشخاص مزودين برسائل تتضمن عرض الإسلام واعتناقه وذلك إلى كل من ملك البحرين ومصر والحبشة وكذلك حاكمي بلاد فارس وبلاد الروم وغيرهم من قادة البلدان والأقاليم المتاخمة .
تأسيس الدولة الإسلامية وأهم الأعمال المناطة بها :
وبعد أن أنهى عليه الصلاة والسلام كافة أعماله في سبيل نشر هذه الدعوة في ربوع الجزيرة العربية وما جاورها من الأقاليم الأخرى رأى أنه من الضرورة القصوى تأسيس دولة إسلامية تقوم برعاية شؤون المسلمين والتأمين على حياتهم وحفظ حقوقهم وأموالهم وصون أعراضهم فكانت هذه الدولة الفتية والتي اختار الرسول المدينة المنورة والتي تنورت بالإسلام وبمقدمه صلى الله عليه وسلم مقرا لها كأول دولة في الإسلام لإدراكه عليه أفضل الصلاة والسلام وهو الرسول الذي لا ينطق عن الهوى بأن هذا التوجه يعد من الأمور البالغة الأهمية لجعل المسلمين في كيان واحد وتحت راية وكلمة واحدة . أما أبرز المرتكزات التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الدولة المباركة فتتمثل في: 1- تطبيق أركان الإسلام نصا وروحا. 2- تطبيق مبدأ التشاور والتعاون والمساواة والعدل بين الناس فضلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما فيه من مصلحة عامة للجميع. 3- توطيد روح العلاقات الطيبة والمعاملات الحسنة بين أفراد المجتمع المسلم وغيرهم من الناس أملا في جذبهم للدخول في الإسلام من واقع هذه المعاملة الحسنة. 4- توثيق عُـرى المودة والمحبة والعلاقات الطيبة والحميمة بين جميع أفراد الأسرة الواحدة من خلال قيم إسلامية تتضمن الاحترام والتقدير والتعاون وبر الوالدين وطاعتهما. 5- الحض على التعليم والاهتمام بالنواحي الاقتصادية من بيع وشراء وفق ما جاء به الشرع الإسلامي في هذا الخصوص. 6- تحديد واردات بيت المال وسبل إنفاقها على وجهها الصحيح الذي يتفق مع تعاليم الإسلام .
زواجه صلى الله عليه وسلم وأبناءه :
ذكرنا فيما سبق بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج من السيدة خديجة بنت خويلد بن أسد عبد العزي بن قصي أم المؤمنين رضي الله عنها وكان عمره خمسة وعشرون سنة فيما كان عمرها رضي الله عنها الزوجة الطاهرة النقية ذات الشرف والمال والجمال أربعون سنة وذلك قبل البعثة، وهي أول زوجة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتزوج عليها حتى ماتت وهي أيضاً أول من أمن به وبرسالته وتحمل أعباء الدعوة إلى الله معه منذ بدايتها بنزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وجاهدت معه بنفسها وبمالها وتحملت أيضاً ايذاءات كثيرة من قومها والتي منها على سبيل المثال حصار كفار قريش لبني هاشم لثلاثة سنوات في شعب أبي طالب بمكة. أنجبت لرسول الله إبنان وهما القاسم وعبد الله وقد ماتا وهما صغيران في السن وكذلك بنات وهن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة الزهراء رضي الله عنهن جميعا. عاشت خديجة رضي الله عنها أياما جميلة وحياة سعيدة وكريمة مع رسول الله وقد كانت تقول مما يروى عنها : بالأمس وهبت نفسي لرسول الله واليوم وهبت نفسي ومالي معا لهذا الرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه ولهذا لا غرابة وهي تقدم له الطعام والشراب وكل ما يحتاج إليه داخل البيت بنفسها والسهر على راحته فضلا عن خارجه حينما كان يتعبد في غار حراء وأثناء اعتكافه في شهر رمضان من كل عام ، أصيبت رضي الله عنها بمرض شديد وماتت قبل الهجرة بثلاثة سنوات على أثر هذا المرض ودفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع يسمى الحجون بمكة المكرمة عن عمر يناهز الخامسة والستون عاما. خمسة وعشرون عاما منها قضتها رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . بعد ذلك تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها ولكنه لم يدخل بها نظرا لصغر سنها وهي ستة سنوات في أكثر الروايات ولما بلغت سن التاسعة دخل بها صلى الله عليه وسلم والذي كان يعرفها منذ ولادتها بحكم قربه من والدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه حيث ولدت في السنة الثامنة قبل الهجرة ، ومع أنها الزوجة الوحيدة البكر التي تزوجها صلى الله عليه وسلم إلا أنها لم تنجب له أولاد على الإطلاق غير أنها مع هذا كانت تنال الكثير من محبته إلى درجة أنه ذات مرة قام بحملها على عاتقه لتطل على ساحة المسجد لترى الصبية وهم يلعبون بالحراب. روت عن الرسول أحاديث كثيرة وحفظت ما يزيد على ألفي ومائة حديث بل وأصبحت مرجعا لأكابر الصحابة في مسائل الفرائض بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. توفيت سنة خمسين من الهجرة ودفنت بالبقيع بالمدينة المنورة وقد كان عمرها رضي الله عنها ستة وستون عاماً. تجدر الإشارة هنا إلى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تزوج وبنفس العام الذي تزوج فيها السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية من نساء مكة الفاضلات وقد كانت في السابق زوجة لابن عمها السكران بن عمرو والذي هاجرت معه إلى الحبشة في سبيل الدعوة ومكثت معه مدة طويلة غير أنها ما لبثت أن عادت إلى مكة بينما زوجها توفي هناك بعد إصابته بمرض شديد ، لتظفر بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وزمعت هذه الزوجة المؤمنة الصابرة المحتسبة كانت كبيرة في السن ومع هذا كانت تقوم بخدمة الرسول خير قيام بالإضافة إلى رعاية أبنائه من خديجة فهي امرأة حنونة وطيبة القلب ولقد قالت ذات مرة للرسول بعد إن خافت أن يفارقها نظرا لكبر سنها وعدم استكثاره الحاجة منها بخلاف زوجته عائشة في هذا الجانب : أمسكني والله ما بي على الأزواج من حرص ، ولكني أحب أن يبعثني الله يوم القيامة زوجة لك . . إلى أن قالت أيضا : أبقني يا رسول الله وأهب ليلتي لعائشة واني لا أريد ما تريده النساء . توفيت رضي الله عنها سنة 54 هـ ولم ينجب الرسول منها . بعد ذلك تزوج الرسول زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف الهلالية والملقبة بأم المساكين بعد وفاة زوجها السابق عبيدة ابن الحارث أحد شهداء غزوة بدر غير أنها لم تدم أكثر من ثمانية أشهر تقريبا ولم ينجب منها الرسول صلى الله عليه وسلم حيث توفيت في السنة الثالثة من الهجرة ودفنت في البقيع بالمدينة المنورة وقد كان عمرها على الأرجح ثلاثون عاما ثم تزوج من بعدها بحسب المصادر التاريخية حفصة بنت عمر بن الخطاب بعد عودته صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر وقد كان عمرها يومئذ عشرون عاما وذلك بعد استشهاد زوجها السابق خنيس بن خزامة وعاشت مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إن توفي وقد كانت تعكف على العبادات صوامة قوامة وحين جمع أبو بكر الصديق القراءات في مصحف أوصى إن يكون هذا المصحف عند حفصة بعد موته رضي الله عنه وظل عندها حتى في زمن خلافة أبيها عمر بن الخطاب ، وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه نُسخت من هذا المصحف نسخة وزعت على الأنصار . توفيت ودفنت رضي الله عنها بالبقيع بالمدينة المنورة في عهد معاوية بن أبي سفيان سنة 40هـ . كما تزوج صلى الله عليه وسلم من أم سلمة . هند بنت أبي أمية بعد وفاة زوجها عبد الله بن عبد الأسد بن هلال أبن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد في شهر شوال في السنة الرابعة من الهجرة وكان أبوها كثير العطاء إلى الحد الذي لقب فيه بزاد الركب لأنه كان لا يسافر ومعه أحد ألا ويكفيه من مما لديه من زاد . توفيت رضي الله عنها سنة 62هـ ولم ينجب الرسول صلى الله عليه وسلم منها ، وفي السنة الخامسة من الهجرة تزوج صلى الله عليه وسلم من السيدة زينب بنت جحش وقد كان عمرها خمسة وثلاثون عاما وكان اسمها برة فحول هذا الاسم إلى زينب وهي ذات جمال وشرف وقربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد تميزت عن غيرها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في إن زواجها من رسول الله جاء بأمر مباشر من الله تعالى والذي دائما ما تفتخر به أمام أقرانها ، وذلك بعد طلاقها من زيد بن حارثة رضي الله عنه والذي عاش في صغره في بيت رسول الله بالتبني ليصبح فيما بعد مولى وخادم لرسول الله وفي ذلك قصة طويلة في كتب التاريخ لا يتسع المجال لذكرها ولذلك نكتفي بقول الله تعالى ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها…) الأحزاب آية 37 وهي الزوجة التي تعد من أكثر زوجات النبي صدقة على الفقراء والمساكين . توفيت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ودفنت بالبقيع بالمدينة المنورة بعد أن صلى عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ومن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا جويره بنت الحارث بن أبي ضرار من بني المصطلق وقد كانت أسيرة ومن ثم تم فك أسرها وقد كانت من قبل زوجة لابن عمها مانع بن صفوان المصطلق والذي قتل في غزوة بني المصطلق . عاشت جويره في بيت النبوة حتى توفي عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي سنة 65هـ على أرجح الأقوال توفيت جويره رضي الله عنها ودفنت بالبقيع بالمدينة المنورة . أعقب ذلك زواجه صلى الله عليه وسلم من كل من : صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير ( من قبيلة يهودية ) تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عمرها يزيد على سبعة عشرة عاما وذلك بعد زواجها مرتين وبعد أن أسلمت أيضا. توفيت بعد رسول الله بالمدينة المنورة ودفنت بالبقيع في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنها . رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية وتشتهر بأم حبيبة وقد تزوجها الرسول في السنة الرابعة من الهجرة . كان أبوها أبي سفيان زعيم الكفار بمكة قبل الفتح ، أسلمت هي وزوجها الأول عبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . عاشت في بيت النبوة ولم ينجب الرسول منها وتوفيت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة سنة 44هـ ودفنت بالبقيع رضي الله عنها . ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها وقد كانت تسمى برة وسماها الرسول بميمونة . تزوجها الرسول في السنة السابعة من الهجرة بعد وفاة زوجها السابق رهم بن عبد العزى العامري وقد كان عمرها ستة وعشرون عاما وذلك عقب صلح الحديبية بمكة المكرمة بعد انتهائه من تأدية العمرة ومن ثم ذهب بها إلى المدينة المنورة . وميمونة هي ثاني امرأة آمنت ودخلت في الإسلام بعد خديجة رضي الله عنها . توفيت سنة 61هـ بعد وفاة الرسول بخمسة سنوات وذلك في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي تعد آخر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم . أما ماريه بنت شمعون القبطية وهي من أقباط مصر والتي أهداها المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وطأها بملك يمين بعد أن أسلمت في السنة السابعة من الهجرة وانجبت له إبراهيم غير أنه توفي صغيرا فحزن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم حزنا شديداً . توفيت سنة 16هـ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنها ، مُوضحين ضمن هذا السياق إلى أن جميع زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم قد تزوجهن وهن ثيبات ما عدا السيدة عائشة رضي الله عنها فقد تزوجها وهي بكر. أما السر في تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فتشير كتب السيّر التاريخية إلى إن هذا نابع من عدة أمور أولهما: رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في تقوية أواصر المودة والمحبة والعلاقات الحميمة التي تربطه بكبار الصحابة ورفع الحرج معهم حيث تزوج عائشة بنت أبي بكر الصديق وتزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وكلاهما من الصحابة الأجلاء ممن مكنتهم هذه المصاهرة من الدخول إلى بيت رسول الله وقتما شاءوا. وثانيهما : رغبته صلى الله عليه وسلم في تقوية لحمة المسلمين وشوكتهم بالتواد مع غيرهم من القبائل الأخرى ذات القوة والعتاد والرجال من خلال هذه المصاهرة معهم ليستفيد بذلك من قوتهم ويكسبهم في ذات الوقت نصرة الإسلام . وثالثهما : تقديره صلى الله عليه وسلم وشفقته وكرمة على بعض النساء السبايا اللاتي وقعن في الأسر واللاتي كم هن في أمس الحاجة لمن يقف معهن ويؤازرهن في مثل هذه الظروف.
أما بالنسبة لأبناء وبنات الرسول صلى الله عليه وسلم فعددهم سبعة. ثلاثة أبناء وهم: القاسم وعبد الله وهما من خديجة رضي الله عنها ، وإبراهيم من مارية القبطية رضي الله عنها وكلهم توفوا وهم صغار. أما بالنسبة للبنات فهن: زينب، ورقية، وفاطمة، وأم كلثوم وهن جميعا من زوجته خديجة رضي الله عنها، فلقد تزوجت زينب من أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد وتزوجت رقية ومن ثم أم كلثوم من عثمان بن عفان رضي الله عنه ولذا سمي بذي النورين ، وتزوجت فاطمة الزهراء من علي بن أبي طالب ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
صفاته وشمائله صلى الله عليه وسلم:
من صفاته صلى الله عليه وسلم أنه قدوة في نبل الأخلاق والتواضع الجُم وهادئ الطبع، لا تكبر فيه ولا خشونة، وكان حكيماً ومخلصاً ووفياً وشجاعاً ويحترم العهود والمواثيق وكان عادلاً بين الناس ويساوي بينهم في الحقوق والواجبات وكان عليه الصلاة والسلام صابراً ومحتسباً ومتسامحاً في كل الأحوال والظروف ويسموا بنفسه ويترفع عن الضغائن والماديات والشهوات ويقابل السيئة بالحسنة ويصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفوا عمن ظلمه، وإذا ما تحدث أوجز بألفاظ غزيرة المعاني وبكلمات عذبة تغزو القلوب وتأسرها، وكيف لا ؟ وقد أوتي جوامع الكلم، كما كان صلى الله عليه وسلم يحرص أشد الحرص على معاملة الناس بأحسن الأساليب وأطيبها ليغرس فيهم الخلق الرفيع المنبثق من دين الله القويم، كما أنه إذا ما رأى خيراً لأمته دلها عليه فضلاً عن مشاركته الفاعلة في مُساعدة زوجاته في بعض الأعمال البيتية وحمله لحاجاته بنفسه كنوع من التواضع بالإضافة إلى قيامه بحلب الشياه ورقع ثوبه وخصف نعله وإتقانه للإعمال المناطة به، زد على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم كان كريماً وسخياً فلا يبقي في بيته إلا قدراً يسيراً مما يحتاج إليه بالإضافة لحبه الأطفال ومداعبتهم والعطف على الفقراء والمساكين والأيتام والشفقة عليهم والتي شملت أيضاً البهائم والطيور. عدا كونه لم يجمع بين صنفين من طعام في أكلة واحدة في أكثر الحالات وإذا أخذ منه الجوع مأخذه شد على بطنه حجراً وكان أيضاً لا ينام إلا على فراش بسيط أو حصير مصنوع من خوص النخيل، كما أنه عليه الصلاة والسلام لين الجانب وشديد الحياء وكان حلمه يسبق غضبه ولذلك لم تضرب يده الشريفة أحد قط وإذا أصابه غم أو كرب فزع إلى الصلاة ودعا ربه بتفريجها وهو موقن بالإجابة وعندما طُـلـب منه ذات مرة بالدعاء على المشركين قال صلى الله عليه وسلم: إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة للعالمين ، وكان يحب المزح ولكن عن صدق وحق وإذا ما دخل بيته ابتدأ أهل بالسلام، أما في حالة الحرب فقد كان يوجه صلى الله عليه وسلم رؤساء الجيش ويأمرهم بألاّ يقاتلوا إلا من قاتلهم فقط ويوصيهم بتقوى الله وألاّ يقتلوا وليداً أو امرأة أو كبيراً في السن وألاّ يقطعوا شجرة أو يهدموا بيتا، وخلاصة القول: فأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن وقد كان يقول إنما أنا رحمة مُهداه وقد جئت لأتمم مكارم الأخلاق، فهو أحسن الناس وجهاً وهيئتاً وخلقاً ولم يصفه واصف إلا وقد شبهه بالقمر ليلة البدر ، وحتى تكتمل الصورة البهية لهذا الرسول العظيم والشخصية الفذة خليق بنا أن نشير إلى ما قاله بعض المستشرقين ممن قرؤوا سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم وأنصفوه بهذا الخلق العظيم على الرغم من أنهم غير مدينين بالإسلام، نذكر منهم على سبيل المثال الدكتور زويمر وهو مُستشرق كندي قال في كتابه ( الشرق وعاداته ) إن محمداً كان ولاشك من أعظم القادة المسلمين الدينيين ويصدق عليه القول أيضا بأنه كان مصلحاً وقديراً وبليغاً وفصيحاً وجريئاً ومفكراً عظيماً وبالتالي لا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات وأن قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء فيما قال برناردشو الانجليزي في كتابه محمد ( إن رجال الدين في القرون الوسطى ونتيجة لجهلهم وتعصبهم قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة فلقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية ولكنني عندما اطلعت على أمر هذا الرجل وجدته أعجوبة خارقة وتوصلت أيضا بأنه لم يكن عدوا للمسيحية بل يجب أن يقال عنه بأنه منقذ البشرية وفي رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنوا إليها عامة البشر ) أما ليوتولستوى فقد قال عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من عظماء الرجال المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جلية ويكفيه فخرا أنه هدى أمة بكاملها إلى نور الحق وجعلها تجنح للسكينة والسلام ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية وفتح لها طرق الرقي والمدنية وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة ورجل مثل هذا جدير بالإقدام والإكرام . هكذا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأننا والله مهما أوتينا من البلاغة والفصاحة وسحر البيان فإننا لن نوفيه حقه من الوصف والإجلال والإكبار. فلقد اجتمعت فيه كل فضائل الخير والكمال الإنساني، ولم لا يكون كذلك !! وهو سيد البشر أجمعين ، وقد اصطفاه رب العالمين من بين سائر خلقه أجمعين ليكون شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً .
الإسراء والمعراج والمعجزات التي تحققت على يديه:
قبيل هجرته عليه الصلاة والسلام إلى يثرب والتي سماها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة حين وصوله إليها بسنة واحدة أسري به من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى بفلسطين ثم عُرج به إلى السماء بواسطة البراق فقابل حينئذ عدد من الأنبياء وسلم عليهم كلا بحسب مقامه في كل سماء من السماوات السبع. مُبتدئاً بأبونا آدم عليه السلام في السماء الدنيا ومنتهيا بأبونا إبراهيم الخليل عليه السلام في السماء السابعة مروراً بكل من يحيى وعيسى عليهما السلام في السماء الثانية ومن ثم يوسف فإدريس فهارون فموسى على التوالي حتى إذا ما وصل صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى فرضت عليه الصلوات الخمس والتي كانت بالأصل خمسين ثم خففت بعد ذلك رحمة بأمته صلى الله عليه وسلم، وهناك كتب كثيرة تتضمن إيضاحاً كاملاً لقصة الإسراء والمعراج لمن أراد ذلك. أما بالنسبة للمعجزات والتي تُفسر على أنها أمور خارقة للعادة ومقرونة بالتحدي وليس باستطاعة أي إنسان أو غيره من المخلوقات الأخرى الإتيان بمثلها أبدا فنذكر منها على سبيل الاستشهاد ما يلي : معجزة القرآن الكريم – انشقاق القمر – نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم – تكثير الطعام ببركة دعائه – حنين الجذع الذي صعد عليه صلى الله عليه وسلم كمنبر لخطبه – إبرائه المرضى ومن أصيب بعاهات .
حجة الوداع ووفاته صلى الله عليه وسلم :
في يوم السبت الموافق الخامس والعشرين من ذي القعدة من السنة العاشرة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة ومعه عدد كبير من الحجاج متجهين إلى مكة المكرمة وألسنتهم تلهج بالدعاء والتلبية والتي ما إن وصلها بعد الإحرام من ميقات ذي الحليفة إلا وطاف بالبيت العتيق ومن ثم سعى بين الصفا والمروة حتى إذا ما فرغ عليه الصلاة والسلام من هذا الركن وبصحبته جموع غفيرة من الحجاج أتجه إلى منى في اليوم الثاني من أيام التشريق حيث المبيت فيها وفي صبيحة اليوم التاسع من ذي الحجة توجه عليه الصلاة والسلام إلى مشعر عرفة ومن ثم صعد إلى قمة جبل الرحمة حيث يلتف جموع من الحجاج حوله وخطب في الناس خطبة جامعة تضمنت بعد أن حمد الله واثني عليه كثيراً من التوجيهات والتوصيات ومنها : تحريم دماء الناس أو أخذ أموالهم ، ومن لديه أمانة فليؤديها إلى من وأتمن عليها ، والتحذير من الظلم وإتباع الشيطان، والاستوصاء بالنساء خيراً وتحقيق مبدأ العدل والمساواة بين الناس بغض النظر عن لغتهم ولونهم وجنسهم وغير ذلك من النصائح الأخرى القيمة في مختلف نواحي الحياة. بعد ذلك توجه إلى مزدلفة بعد غياب شمس يوم التاسع من شهر ذي الحجة ليبيت فيها ومن ثم يجمع الحصا ليرمي بها الجمرات الثلاث في الأيام التالية بموقع منى حتى إذا ما أكمل بقية أركان وواجبات الحج الأخرى من حلق أو تقصير أو ذبح وطواف افاضة والتي لا يكتمل الحج إلا بها ووفقاً أيضاً لنوع النسك الذي سيؤديه الحاج ( مفرداً أو متمتعاً أو مقرناً ) عاد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى المدينة المنورة وقبيل دخوله قال ( لا اله إلا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، آيبون ، تائبون ، عابدون ، ساجدون ، لربنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ) وفي يوم الأثنين الثاني عشرة من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشر من الهجرة النبوية والموافقة لليوم السابع من شهر يونية من سنة 632م انتقل رسولنا الكريم إلى الرفيق الأعلى بعد أن أصيب بمرض الحُمى ولمدة ثلاثة عشرة يوماً وقيل سبعة أيام وذلك في بيت زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكان عمره ثلاثة وستون عاماً ، وقبيل وفاته أوصى ببعض الوصايا ومنها عدم البكاء والحزن عليه وإحسان الظن بالله والمحافظة على الصلاة قائلاً( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) تلكمُ هي سيرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم . الشخصية الفذة التي لا يوازيها أو يماثلها أي شخصية في الوجود الإنساني مهما بلغت من الصفات الحميدة وحسن الخلق والى يوم القيامة. فما أعظمه من نبي ورسول ، وما أجدرنا ونحن نقرأ هذه السيرة العطرة أن نصلي عليه دائماً وأبداً لننال بذلك عظيم الأجر والمثوبة وشفاعته صلى الله عليه وسلم يوم التلاق والتناد. قال تعالى( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ( من صلى عليِّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا ) متمنين في نهاية هذا المطاف المبجل بعظمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن نكون قد وفقنا فيما ينبغي تدوينه حول هذه الشخصية الفذة وبما يليق بمقام هذا النبي العظيم رسول الهدى والتقى والصلاح والاستقامة والأسوة الحسنة لكافة الناس حتى قيام الساعة ، قالت عنه عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلقة ( كان خلقه القرآن الكريم صلى الله عليه وسلم) فيما قال عنه أحد الشعراء وهو ما نختم به هذه السيرة المباركة:
-ألا إن خــــــــير بـني آدمنبي الهدى والتقى والكـــرم. -محمد المصطفى والرسولإلى الناس من عرب أوعجم.
-فـأدى الرســــالة عن ربـهولــم يثنــه مــلـل أو ســـأم. -فـنـوّر للمــؤمنــين الهُــدىوأخرجهــم من ديـاجي الظلم.
-بأحمد أغلـق باب الضـلالوهُــــدّم أركــانــه فــانهـــدم. -عليه السّلام ، وصلى عليهرب العبــاد وبــاري الـنسـم.
-وأمتـه جُعـلت في الكـتــاب*وحــياً مـن الله خـير الأمــم.
سائلين الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد التوفيق والسداد فيما أوردناه من شمائل واضاءات مختصرة لشخصية نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم : رسول الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه وسلم.