إن الناظر للحضارات الإنسانية على امتداد التاريخ يجدها متفاوتة ولربما مختلفة بناءً على ما توافر لكل منها من مُقومات حياتية طبيعية وظروف مناسبة زمانية ومكانية حتى إذا ما وصلت إلى أوج قوتها على سبيل الاحتمال أصابها الوهن فالضعف التدريجي فالاندثار، وهذا ما حلّ بكثير من تلكم الحضارات والأقوام إما بهلاكهم لما عصوا أمر ربهم كقوم عاد وثمود وأصحاب الايكة وإما بمُسببات أخرى متنوعة، وتلك هي سنة الله في خلقة إلى قيام الساعة، ولأن الحضارة الغربية المعاصرة هي محور حديثنا في هذا المقال، فإنه لخليق بنا القول بأن هذه الحضارة قد وصلت إلى أعلى مستويات الرقي والتطور والتقدم في كافة المجالات العلمية والتعليمية والتقنية والصناعية والإعلامية والثقافية والرياضية والعسكرية وغيرها من الأنشطة الحياتية المتعددة، غير أنها مع هذا كله لم ترتقي إلى السمو الخلقي الذي يحفظ للإنسان أياً كان كرامته ومكانته وحقوقه الشرعية باستثناء المنتمين إليها بطبيعة الحال وهذا ما يلمسه ويُشاهده كل من يعيش خارج كيانها فجميع المفاهيم ذات الارتباط بكرامة الإنسان كالحرية والديموقراطية وحقوق الانسان تطبق بحق كل من ينتسب إليها، بينما مصداقية هذه المفاهيم الإبادة والدمار بحق الخارجين عن نطاقها وهذا ما يتناقض في الواقع مع ما سطره البعض من مؤلفيهم من أنهم المجتمع الأنقى والأزكى على سائر أمم الأرض وأن حضارتهم باتت معياراً للتحضر والتمدن ويمكن الاقتداء بها، عوضاً عن بطلان دياناتهم وعقائدهم وفكرهم العلماني والمادي والالحادي الذي لا يؤمن بوجود خالق لهذا الكون ولا بالغيبيات ولا برسل ينزل عليهم الوحي ولا بحياة لما بعد الموت، عدا حرصهم الشديد والمستمر في نشر فوضى الاخلاق والرذيلة والدعوة لبناء العلاقات الحرة بين الجنسين وزواج المثلين المخالف للفطرة الإلهية، وجعل العقل والعلم سبيلان للحريات الشخصية لكسب ما شاءوا من الأموال الطائلة تحت ذرائع غير مبررة عوضاً عن إلحاقهم الأذى والضرر ولربما القتل للأنفس البريئة متى رأوا في ذلك مصلحة حتى لو آل بهم استخدامهم حق النقض الفيتو عند الضرورة ، وهذا ما أشار إليه الدكتور محمد مرسي في إحدى كتاباته حين قال: بأن أخطر ما توصل إليه مفكرو الغرب من خلال غزوهم الثقافي قديماً وحديثاً التركيز على الإنسان من داخله بحيث تزلزل شخصيته ولا يعرف صاحبها رأسه من قدميه، وأن السيطرة على العقول أهم من السيطرة على الأسواق واحتلال النفط، ومع يقرأ عن واقع المسلمون إبان الحروب الصليبية وما عانوه من متاعب جمة وما فقدوه من أنفس لأجل استرداد أراضيهم من الغازين والمحتلين بعد قرنيين من الزمان يجد ذلك واضحاً وجلياً فيما ذكرناه سابقاً، تلكمُ هي الحضارة الغربية التي افتتن وانخدع فيهل كثير من الناس إلى الحد الذي دفع ببعضهم لمحاكاتها وتقليد ما يرونه ماثلاً أمامهم من سلوكيات أفرادها بصورة مباشرة أو غير مباشرة من خلال الصور الفتوغرافية أو المرئية أو الأفلام أو المسرحيات معتبرين ذلك نوع من التحضر والتمدن، بينما هي حضارة ناقصة وعارية تماماً من كل ما يُسعد الناس جميعهم عدا كونها أيضاً لم تفلح في علاج المشكلات التي واجهتها الشعوب وإنما على العكس من ذلك حيث خلقت مشكلات عويصة وشن حروب دامية لا داعي لها بل وأشقت عامة البشر على امتداد الأرض من خلال تقويض أو حرمان شعوب بذاتها من ممارسة حقوقهم المشروعة لا سيما العرب والمسلمين كالحيلولة دون بروز مبتكريهم وتثبيط عزائمهم أو تعطيل ما وصلوا إليه من مكتشفات ومخترعات لكي لا يتفوقون عليهم، ولا تقوم لهم قائمة بين مجتمعات الأرض، متجاوزين بهذا النهج الظالم والعدائي كل الأعراف والقوانين والأنظمة الدولية تحت طائلة ما يجوز لهم لا يجوز لغيرهم، تجدر الإشارة إلى أن الحضارة الغربية قد استفادت كثيراً من علوم المسلمين وإرثهم التاريخي العريق حينما استولت دولاً منها على معظم بلادهم في عهود قديمة، وإن جاز التعبير وسرقة الكثير من كنوزهم الثمينة على حين غفلة من قبل مستشرقين وصلوا لتلك البلاد أثناء الحروب الصليبية كالعلوم الفلكية والرياضيات والهندسة والفلسفة وعلوم البحار والنقوش المعمارية والعلم التجريبي الذي تفردوا به عن غيرهم من الأمم السابقة، لما تميزوا به من حكمة وحنكة وفطنة وبعد نظر وسعة اطلاع وصبر وجلد، وغير ذلك مما حمله المسلمون من أصالة فكرية وأدبية وعلمية وفنون نادرة وقتما وصلوا إلى أنحاء متفرقة من القارة الأوروبية لا سيما بلاد الأندلس اسبانيا حالياً فاتحين وناشرين للإسلام ، وليس هذا فحسب وإنما قام هؤلاء الغربيون بترجمة هذه العلوم إلى لغاتهم اللاتينية والفرنسية لأهميتها القصوى ولتدريسها لطلبة جامعاتهم، وهو ما أعتبره منصفون لديهم تحولاً حضارياً في مجمل حياتهم العلمية والأدبية والفلسفية والفنية والثقافية، بعدما كانوا يعيشون في ظلام الجهل والخرافات والرق والعبودية والتعصب والهوس الديني والصراعات والانحطاط الفكري والثقافي والتمحور حول الذات طيلة عصورهم الوسطى، وفي هذا يقول (إريك فروم ) أحد مُفكريهم: بأن حضارتهم غالباً ما تدفع بالإنسان إلى الاختلال والاضطراب ولذا لابد لهم من بناء مجتمع جديد يقوم على علم جديد للإنسان وقضاياه وعلى أساس من الكينونة والوجود لا على الأنانية والتملك، مُعتبراً (إريك) بأن التقدم التقني الذي احرزوه قد خلق مخاطر أيكولوجية وحروب نووية قد تُسبب في إنهاء كل صور الحضارات على كوكب الأرض، وأن اخفاقهم للوعد العظيم للعصر الصناعي يعود سببه لجعل الهدف من الحياة السعادة وتحقيق أقصى متعة واشباع أي رغبة ذاتية للفرد وهو ما يعني لديهم، مذهب اللذة الراديكالي، وأن الأنانية والجشع مهمان لتحقيق مصالحهم الشخصية التي تفضي إلى الانسجام والسلام، ولهذا لم يتوانوا من استخدام كل ما يملكونه من وسائل إعلامية وتقنية وأقمار صناعية ووكالات أنباء وأخبار عالمية يحتكرونها ويسيطرون عليها بنسبة 80% لأجل تضخيم الأحداث لأكثر مما يجب بحجة مكافحة الإرهاب والمخدرات بينما هم ليسوا كذلك وإنما لهدف إثارة البلابل والفتن والتحلل الاجتماعي والتفسخ الأخلاقي والدعوة للتبرج والسفور واختلاط النساء بالرجال وهن بملابس ضيقة أو شبه عارية لأجل إثارة النزعة الشهوانية وهتك الأعراض والنيل من شرف النساء كما تُجسده المواقع والأفلام الإباحية عبر الشبكة العنكوبوتية والتي غالباً ما تُشاهد لمجرد قيام شخص بعملية بحث عن موضوع مُعين على اعتبار ذلك نوع من الحرية الشخصية، هذا عدا غرسهم لبذور الحقد والكراهية وحب الانتقام والمهاترات الفكرية والمذهبية والطائفية في نفوس أبناء أمة الإسلام لأجل اضعافهم وتفرقتهم والقضاء على هويتهم الإسلامية، متجاهلين بهذه الأفعال المشينة محاسنهم وإيجابياتهم واصفينهم بأنهم أناس همجيون ومتوحشون ومتعطشون للدم ومضطهدون للمرأة وغير موثوق بهم” بينما هم على العكس من ذلك يدينون بدين خالد وقويم ويحمل بين طياته مشاعل الإيمان بالله تعالى ومكارم الأخلاق قولاً وعملاً وعدلاً ومساواة وتسامحاً وتشاوراً وتعاونناً على البر والتقوى والإحسان والمحافظة على الضروريات الخمسة للإنسان ( النفس والعقل والدين والمال والعرض ) فضلاً عن فعل الخيرات، ونبذ ما سواها من الاثم والعدوان عدا كونه هو الدين الوحيد من بين كل الديانات السماوية والوضعية الذي لا يجد فيه عامة الناس تصادم بين مقتضيات عقولهم وما يحقق مطالبهم الروحية والخلقية، ومقدرته أيضاً على امتصاص واحتضان جميع التيارات الحضارية أيا كان مصدرها طالما لا تتعارض مع منطقه الأخلاقي والعملي وفقاً لرأي المفكر العربي مصطفى طه، بل ويُعد الأقوى منافس للعلمانية الغربية مهما أضيف إليه من بدع وخرافات والأكثر احتفاظاً بحقيقته وبسرعة انتشاره المذهلة، وهو ما جعل البعض من الغربيين أنفسهم يبحثون في الآونة الأخيرة عن دين ينقذهم من ويلات العلمانية والمادية والرأسمالية التي ينتهجونها فلم يجدوا بداً من دين الله الإسلام بحسب رأي الفيلسوف الفرنسي اليساري ريجيس دوبري الذي أورده في كتابه ( الأنوار التي تعمي ) وهو الدين الذي وصفه رب العزة والجلال بقوله ﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ بخلاف ما أعتبره الغربيين بالخطر الأخضر الذي ينذرهم بالويل والثبور على غرار الخطر الأحمر بالنسبة للاتحاد السوفيتي سابقا، بينما حضارتهم الليبرالية قد وفرت لهم أقصى المنافع والحراك والمثل العليا للكرامة الإنسانية والاستغناء والاستقلال الذاتي مقارنة بغيرها من الحضارات الأخرى التي تفتقر لذلك، وأن مجتمعهم بهذه النظرة بات في معتقدهم أنجح مُكون تم ابتداعه حتى عصرنا الحاضر، وأن النصرانية لا غيرها هي الأساس النهائي للحرية والضمير وحقوق الانسان والديموقراطية، هكذا تجلت الحضارة الغربية في أسوأ صورها، ومع هذا هناك من أمة الإسلام مُنبهرون ومُفتنون بهذه الحضارة إلى الحد الذي يسوغ لبعضهم ممارسة ما استطاعوا من سلوكياتهم المخالفة لدين الله الإسلام أو تتنافى مع الآداب والذوق العام كالأكل باليد اليسرى وتعليق القلائد والسلاسل في الرقبة وفي الأذنين واليدين ولبس البناطيل المشققة من الساقين والثياب الشفافة أو شبه العارية أو تقليدهم في أمور أخرى لا يتسع المقام لذكرها هنا، بل هناك من يستحي ويخجل من التحدث في المناسبات والمحافل الدولية بلغتهم العربية لغة القرآن الكريم الذي ( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) فيما ذكر الشيخ صالح الحصّين في ( كتابه رؤى تأصيلية في طريق الحرية ) بقوله: يُخشى بسبب التأثير الطاغي للثقافة الغربية الذي يُسنده الانبهار بالتقدم المادي والتكنولوجي والمعرفي للغرب وسلطان الاعلام المسيطر أن يُصاب الضمير الخلقي الجمعي للامة بتشوهات غير إسلامية إذا ما تسرب إليها بعض اتجاهات الثقافة الغربية كالنسبية الأخلاقية والميكافيلية والأنانية والتسليم بفكرة الصراع والمغالبة مُضيفاً الحصيّن يرحمه الله: بأن الاحتلال بقوة السلاح قد أنتهى اليوم غير أنه لا يزال باقياً من خلال الاحتلال الاقتصادي والثقافي أو بما سماه بالرق الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي أما المفكر النمساوي ليوبولد فاس فقد قال بعدما أسلم ( لقد هجر العالم الإسلامي تقاليده الخاصة وارتدّ إلى العناء الروحي والفقر العقلي فلم يبق له من القوة ما يجعله قادراً على مقاومة ضغط الأفكار الغربية )
بقي أن نقول في الختام بأنه ما أحوج أمتنا العربية والإسلامية للتوحد والاعتصام والتعاون والإحساس بالمسئولية والغيرة على أوطانهم والدفاع عنها بكل الطرق والوسائل الممكنة وعدم الاستسلام للأهواء الغربية أو الافتنان بما وصلوا اليه من تطور وتقدم مُقابل الاهتمام المستمر بالجوانب العلمية والصناعية والتقنية والعمل على وضع خطط تطويرية لاستثمار الطاقات والخبرات والكفاءات العلمية المدربة، والاهتمام بالنابغين والموهوبين ورعايتهم وتشجيعهم وتحفيزهم وتعميق روح الوطنية الصادقة والمخلصة في نفوسهم وتوفير كل ما يلزمهم من امكانات مادية ومعنوية تساعدهم على العطاء والإنتاج والاكتفاء الذاتي بدلاً من الاستيراد الخارجي، والعمل على تجاوز كل الصعاب والمعوقات التي تحول دون تحقيقهم لهذه الأهداف الخيرة والنبيلة والعمل الجاد على التخلص من كل بواعث الكسل والتواكل وعدم الثقة بالنفس بالإضافة لليأس والقنوط والتقليد الأعمى كما في الحديث ( حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) وأن نتفاخر بديننا الإسلامي كما همُ كذلك يتفاخرون بدينهم ومعتقداتهم على الرغم من بطلانها استناداً لقوله تعالى ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وأن نعتز بحضارتنا وبقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، وتاريخنا المجيد وأن نعي وندرك ما يُحاك لأمتنا الإسلامية من خطط عدوانية من مبدأ سياستهم القديمة والمتجددة ( فرق تسد ) وقول الله تعالى ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ )
إن الناظر للحضارات الإنسانية على امتداد التاريخ يجدها متفاوتة ولربما مختلفة بناءً على ما توافر لكل منها من مُقومات حياتية طبيعية وظروف مناسبة زمانية ومكانية حتى إذا ما وصلت إلى أوج قوتها على سبيل الاحتمال أصابها الوهن فالضعف التدريجي فالاندثار، وهذا ما حلّ بكثير من تلكم الحضارات والأقوام إما بهلاكهم لما عصوا أمر ربهم كقوم عاد وثمود وأصحاب الايكة وإما بمُسببات أخرى متنوعة، وتلك هي سنة الله في خلقة إلى قيام الساعة، ولأن الحضارة الغربية المعاصرة هي محور حديثنا في هذا المقال، فإنه لخليق بنا القول بأن هذه الحضارة قد وصلت إلى أعلى مستويات الرقي والتطور والتقدم في كافة المجالات العلمية والتعليمية والتقنية والصناعية والإعلامية والثقافية والرياضية والعسكرية وغيرها من الأنشطة الحياتية المتعددة، غير أنها مع هذا كله لم ترتقي إلى السمو الخلقي الذي يحفظ للإنسان أياً كان كرامته ومكانته وحقوقه الشرعية باستثناء المنتمين إليها بطبيعة الحال وهذا ما يلمسه ويُشاهده كل من يعيش خارج كيانها فجميع المفاهيم ذات الارتباط بكرامة الإنسان كالحرية والديموقراطية وحقوق الانسان تطبق بحق كل من ينتسب إليها، بينما مصداقية هذه المفاهيم الإبادة والدمار بحق الخارجين عن نطاقها وهذا ما يتناقض في الواقع مع ما سطره البعض من مؤلفيهم من أنهم المجتمع الأنقى والأزكى على سائر أمم الأرض وأن حضارتهم باتت معياراً للتحضر والتمدن ويمكن الاقتداء بها، عوضاً عن بطلان دياناتهم وعقائدهم وفكرهم العلماني والمادي والالحادي الذي لا يؤمن بوجود خالق لهذا الكون ولا بالغيبيات ولا برسل ينزل عليهم الوحي ولا بحياة لما بعد الموت، عدا حرصهم الشديد والمستمر في نشر فوضى الاخلاق والرذيلة والدعوة لبناء العلاقات الحرة بين الجنسين وزواج المثلين المخالف للفطرة الإلهية، وجعل العقل والعلم سبيلان للحريات الشخصية لكسب ما شاءوا من الأموال الطائلة تحت ذرائع غير مبررة عوضاً عن إلحاقهم الأذى والضرر ولربما القتل للأنفس البريئة متى رأوا في ذلك مصلحة حتى لو آل بهم استخدامهم حق النقض الفيتو عند الضرورة ، وهذا ما أشار إليه الدكتور محمد مرسي في إحدى كتاباته حين قال: بأن أخطر ما توصل إليه مفكرو الغرب من خلال غزوهم الثقافي قديماً وحديثاً التركيز على الإنسان من داخله بحيث تزلزل شخصيته ولا يعرف صاحبها رأسه من قدميه، وأن السيطرة على العقول أهم من السيطرة على الأسواق واحتلال النفط، ومع يقرأ عن واقع المسلمون إبان الحروب الصليبية وما عانوه من متاعب جمة وما فقدوه من أنفس لأجل استرداد أراضيهم من الغازين والمحتلين بعد قرنيين من الزمان يجد ذلك واضحاً وجلياً فيما ذكرناه سابقاً، تلكمُ هي الحضارة الغربية التي افتتن وانخدع فيهل كثير من الناس إلى الحد الذي دفع ببعضهم لمحاكاتها وتقليد ما يرونه ماثلاً أمامهم من سلوكيات أفرادها بصورة مباشرة أو غير مباشرة من خلال الصور الفتوغرافية أو المرئية أو الأفلام أو المسرحيات معتبرين ذلك نوع من التحضر والتمدن، بينما هي حضارة ناقصة وعارية تماماً من كل ما يُسعد الناس جميعهم عدا كونها أيضاً لم تفلح في علاج المشكلات التي واجهتها الشعوب وإنما على العكس من ذلك حيث خلقت مشكلات عويصة وشن حروب دامية لا داعي لها بل وأشقت عامة البشر على امتداد الأرض من خلال تقويض أو حرمان شعوب بذاتها من ممارسة حقوقهم المشروعة لا سيما العرب والمسلمين كالحيلولة دون بروز مبتكريهم وتثبيط عزائمهم أو تعطيل ما وصلوا إليه من مكتشفات ومخترعات لكي لا يتفوقون عليهم، ولا تقوم لهم قائمة بين مجتمعات الأرض، متجاوزين بهذا النهج الظالم والعدائي كل الأعراف والقوانين والأنظمة الدولية تحت طائلة ما يجوز لهم لا يجوز لغيرهم، تجدر الإشارة إلى أن الحضارة الغربية قد استفادت كثيراً من علوم المسلمين وإرثهم التاريخي العريق حينما استولت دولاً منها على معظم بلادهم في عهود قديمة، وإن جاز التعبير وسرقة الكثير من كنوزهم الثمينة على حين غفلة من قبل مستشرقين وصلوا لتلك البلاد أثناء الحروب الصليبية كالعلوم الفلكية والرياضيات والهندسة والفلسفة وعلوم البحار والنقوش المعمارية والعلم التجريبي الذي تفردوا به عن غيرهم من الأمم السابقة، لما تميزوا به من حكمة وحنكة وفطنة وبعد نظر وسعة اطلاع وصبر وجلد، وغير ذلك مما حمله المسلمون من أصالة فكرية وأدبية وعلمية وفنون نادرة وقتما وصلوا إلى أنحاء متفرقة من القارة الأوروبية لا سيما بلاد الأندلس اسبانيا حالياً فاتحين وناشرين للإسلام ، وليس هذا فحسب وإنما قام هؤلاء الغربيون بترجمة هذه العلوم إلى لغاتهم اللاتينية والفرنسية لأهميتها القصوى ولتدريسها لطلبة جامعاتهم، وهو ما أعتبره منصفون لديهم تحولاً حضارياً في مجمل حياتهم العلمية والأدبية والفلسفية والفنية والثقافية، بعدما كانوا يعيشون في ظلام الجهل والخرافات والرق والعبودية والتعصب والهوس الديني والصراعات والانحطاط الفكري والثقافي والتمحور حول الذات طيلة عصورهم الوسطى، وفي هذا يقول (إريك فروم ) أحد مُفكريهم: بأن حضارتهم غالباً ما تدفع بالإنسان إلى الاختلال والاضطراب ولذا لابد لهم من بناء مجتمع جديد يقوم على علم جديد للإنسان وقضاياه وعلى أساس من الكينونة والوجود لا على الأنانية والتملك، مُعتبراً (إريك) بأن التقدم التقني الذي احرزوه قد خلق مخاطر أيكولوجية وحروب نووية قد تُسبب في إنهاء كل صور الحضارات على كوكب الأرض، وأن اخفاقهم للوعد العظيم للعصر الصناعي يعود سببه لجعل الهدف من الحياة السعادة وتحقيق أقصى متعة واشباع أي رغبة ذاتية للفرد وهو ما يعني لديهم، مذهب اللذة الراديكالي، وأن الأنانية والجشع مهمان لتحقيق مصالحهم الشخصية التي تفضي إلى الانسجام والسلام، ولهذا لم يتوانوا من استخدام كل ما يملكونه من وسائل إعلامية وتقنية وأقمار صناعية ووكالات أنباء وأخبار عالمية يحتكرونها ويسيطرون عليها بنسبة 80% لأجل تضخيم الأحداث لأكثر مما يجب بحجة مكافحة الإرهاب والمخدرات بينما هم ليسوا كذلك وإنما لهدف إثارة البلابل والفتن والتحلل الاجتماعي والتفسخ الأخلاقي والدعوة للتبرج والسفور واختلاط النساء بالرجال وهن بملابس ضيقة أو شبه عارية لأجل إثارة النزعة الشهوانية وهتك الأعراض والنيل من شرف النساء كما تُجسده المواقع والأفلام الإباحية عبر الشبكة العنكوبوتية والتي غالباً ما تُشاهد لمجرد قيام شخص بعملية بحث عن موضوع مُعين على اعتبار ذلك نوع من الحرية الشخصية، هذا عدا غرسهم لبذور الحقد والكراهية وحب الانتقام والمهاترات الفكرية والمذهبية والطائفية في نفوس أبناء أمة الإسلام لأجل اضعافهم وتفرقتهم والقضاء على هويتهم الإسلامية، متجاهلين بهذه الأفعال المشينة محاسنهم وإيجابياتهم واصفينهم بأنهم أناس همجيون ومتوحشون ومتعطشون للدم ومضطهدون للمرأة وغير موثوق بهم” بينما هم على العكس من ذلك يدينون بدين خالد وقويم ويحمل بين طياته مشاعل الإيمان بالله تعالى ومكارم الأخلاق قولاً وعملاً وعدلاً ومساواة وتسامحاً وتشاوراً وتعاونناً على البر والتقوى والإحسان والمحافظة على الضروريات الخمسة للإنسان ( النفس والعقل والدين والمال والعرض ) فضلاً عن فعل الخيرات، ونبذ ما سواها من الاثم والعدوان عدا كونه هو الدين الوحيد من بين كل الديانات السماوية والوضعية الذي لا يجد فيه عامة الناس تصادم بين مقتضيات عقولهم وما يحقق مطالبهم الروحية والخلقية، ومقدرته أيضاً على امتصاص واحتضان جميع التيارات الحضارية أيا كان مصدرها طالما لا تتعارض مع منطقه الأخلاقي والعملي وفقاً لرأي المفكر العربي مصطفى طه، بل ويُعد الأقوى منافس للعلمانية الغربية مهما أضيف إليه من بدع وخرافات والأكثر احتفاظاً بحقيقته وبسرعة انتشاره المذهلة، وهو ما جعل البعض من الغربيين أنفسهم يبحثون في الآونة الأخيرة عن دين ينقذهم من ويلات العلمانية والمادية والرأسمالية التي ينتهجونها فلم يجدوا بداً من دين الله الإسلام بحسب رأي الفيلسوف الفرنسي اليساري ريجيس دوبري الذي أورده في كتابه ( الأنوار التي تعمي ) وهو الدين الذي وصفه رب العزة والجلال بقوله ﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ بخلاف ما أعتبره الغربيين بالخطر الأخضر الذي ينذرهم بالويل والثبور على غرار الخطر الأحمر بالنسبة للاتحاد السوفيتي سابقا، بينما حضارتهم الليبرالية قد وفرت لهم أقصى المنافع والحراك والمثل العليا للكرامة الإنسانية والاستغناء والاستقلال الذاتي مقارنة بغيرها من الحضارات الأخرى التي تفتقر لذلك، وأن مجتمعهم بهذه النظرة بات في معتقدهم أنجح مُكون تم ابتداعه حتى عصرنا الحاضر، وأن النصرانية لا غيرها هي الأساس النهائي للحرية والضمير وحقوق الانسان والديموقراطية، هكذا تجلت الحضارة الغربية في أسوأ صورها، ومع هذا هناك من أمة الإسلام مُنبهرون ومُفتنون بهذه الحضارة إلى الحد الذي يسوغ لبعضهم ممارسة ما استطاعوا من سلوكياتهم المخالفة لدين الله الإسلام أو تتنافى مع الآداب والذوق العام كالأكل باليد اليسرى وتعليق القلائد والسلاسل في الرقبة وفي الأذنين واليدين ولبس البناطيل المشققة من الساقين والثياب الشفافة أو شبه العارية أو تقليدهم في أمور أخرى لا يتسع المقام لذكرها هنا، بل هناك من يستحي ويخجل من التحدث في المناسبات والمحافل الدولية بلغتهم العربية لغة القرآن الكريم الذي ( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) فيما ذكر الشيخ صالح الحصّين في ( كتابه رؤى تأصيلية في طريق الحرية ) بقوله: يُخشى بسبب التأثير الطاغي للثقافة الغربية الذي يُسنده الانبهار بالتقدم المادي والتكنولوجي والمعرفي للغرب وسلطان الاعلام المسيطر أن يُصاب الضمير الخلقي الجمعي للامة بتشوهات غير إسلامية إذا ما تسرب إليها بعض اتجاهات الثقافة الغربية كالنسبية الأخلاقية والميكافيلية والأنانية والتسليم بفكرة الصراع والمغالبة مُضيفاً الحصيّن يرحمه الله: بأن الاحتلال بقوة السلاح قد أنتهى اليوم غير أنه لا يزال باقياً من خلال الاحتلال الاقتصادي والثقافي أو بما سماه بالرق الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي أما المفكر النمساوي ليوبولد فاس فقد قال بعدما أسلم ( لقد هجر العالم الإسلامي تقاليده الخاصة وارتدّ إلى العناء الروحي والفقر العقلي فلم يبق له من القوة ما يجعله قادراً على مقاومة ضغط الأفكار الغربية )
بقي أن نقول في الختام بأنه ما أحوج أمتنا العربية والإسلامية للتوحد والاعتصام والتعاون والإحساس بالمسئولية والغيرة على أوطانهم والدفاع عنها بكل الطرق والوسائل الممكنة وعدم الاستسلام للأهواء الغربية أو الافتنان بما وصلوا اليه من تطور وتقدم مُقابل الاهتمام المستمر بالجوانب العلمية والصناعية والتقنية والعمل على وضع خطط تطويرية لاستثمار الطاقات والخبرات والكفاءات العلمية المدربة، والاهتمام بالنابغين والموهوبين ورعايتهم وتشجيعهم وتحفيزهم وتعميق روح الوطنية الصادقة والمخلصة في نفوسهم وتوفير كل ما يلزمهم من امكانات مادية ومعنوية تساعدهم على العطاء والإنتاج والاكتفاء الذاتي بدلاً من الاستيراد الخارجي، والعمل على تجاوز كل الصعاب والمعوقات التي تحول دون تحقيقهم لهذه الأهداف الخيرة والنبيلة والعمل الجاد على التخلص من كل بواعث الكسل والتواكل وعدم الثقة بالنفس بالإضافة لليأس والقنوط والتقليد الأعمى كما في الحديث ( حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) وأن نتفاخر بديننا الإسلامي كما همُ كذلك يتفاخرون بدينهم ومعتقداتهم على الرغم من بطلانها استناداً لقوله تعالى ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وأن نعتز بحضارتنا وبقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، وتاريخنا المجيد وأن نعي وندرك ما يُحاك لأمتنا الإسلامية من خطط عدوانية من مبدأ سياستهم القديمة والمتجددة ( فرق تسد ) وقول الله تعالى ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ )